يحتل القمر مكانة مميزة في تاريخ الثقافة البشرية، لذلك لا عجب أن كثيرًا من الخرافات- ابتداءً من المستذئبين وصولًا إلى الجنون الناجم عن نوبات الصرع- بُنيَت اعتمادًا على تأثيرات القمر المزعومة علينا.
«يجب أن يكون القمر مكتملًا» هذه هي العبارة التي تُسمَع كلما حدثت أشياء جنونية، ويقول الباحثون أن أكثر مستخدميها هم رجال الشرطة في المناوبات الليلية، وطاقم الطب النفسي وموظفي قسم الطوارئ.
بحثت مجموعة من الدراسات على مر السنين لإيجاد أية علاقة إحصائية بين القمر- خصوصًا المكتمل- وسلوك الإنسان، فلم تجد أغلب الدراسات الصوتية أية علاقة، بينما أثبتتها بعض الدراسات بشكل غير حاسم.
واتضح أن الكثير ممن زعموا كشف روابط بين القمر وسلوك الإنسان قد استخدموا أساليب خاطئة، أو لم يكونوا قادرين على الحصول على النتائج نفسها مرة أخرى بتكرار الدراسات والتجارب.
قارنت دراسات متعددة وموثوقة مراحل القمر إلى الولادات، والنوبات القلبية، والوفيات، وحالات الانتحار، والعنف، وحالات دخول المستشفيات النفسية، ونوبات الصرع، بالإضافة إلى أمور أخرى، وقد وجدت ارتباطًا قليلًا أو منعدمًا بينهم.
لكن هناك ارتباط محتمل غير مباشر، فقبل الإضاءة الحديثة أبقى ضوء القمر المكتمل الناس مستيقظين ليلًا، مما أدى إلى حرمانهم من النوم والذي قد يكون أدى إلى مشاكل نفسية أخرى، وذلك وفقًا لفرضية تنتظر دعم البيانات.
إليكم بعض الدراسات التي أجريت في هذا الأمر، لكن بدايةً نعرض بعض أساسيات الفيزياء:
القمر والمد والجزر وأنت:
يتكون الجسم البشري من 75% ماء، ولذلك يتساءل الناس ما إذا كانت هناك حركات مد وجزر بداخلنا.
تجتمع الشمس والقمر لتكوين مد وجزر في محيطات الأرض (تأثير الجاذبية قوي للغاية لدرجة أن قشرة كوكبنا تتمدد يوميًا بفعل تأثيرات المد ذاتها)، لكن المد يحدث على نطاق واسع، فهو ينشأ بسبب الاختلاف في تأثير الجاذبية على جهة معينة من الجسم (الأرض مثلًا) بالمقارنة مع الجهة الأخرى.
وفيما يلي كيفية عمل المد:
يجذب القمر باتجاهه المحيط الذي يقع على جانب الأرض المواجه له أكثر مما يجذب مركز الأرض فيولد هذا مدًا مرتفعًا.
وعلى الجانب الآخر من الكرة الأرضية يتشكل مد آخر، ذلك لأن مركز الأرض يُجذَب نحو القمر أكثر مما يُجذَب المحيط الذي يقع على الجانب غير المواجه للقمر، وكنتيجة لجذب الكوكب بعيدًا عن المحيط يرتفع المحيط بعيدًا عن الكوكب (قوة معاكسة) مكونًا هذا المد الآخر.
بالرغم من ذلك، ليس هناك تغيير ملموس يحدثه تأثير جاذبية القمر على جانب جسمك مقابل الجانب الآخر.
فحتى في بحيرة كبيرة فإن قوى المد صغيرة للغاية، فلم يحدث أن تجاوز المد إنشين إثنين في منطقة البحيرات العظمى مثلًا، وذلك وفقًا للإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي (National Oceanic and Atmospheric Administration) التي تضيف: «لا تظهر هذه الاختلافات الضئيلة بسبب التقلبات الأكبر في مستويات البحيرة والناتجة عن الرياح وفرق الضغط الجوي، لذلك يمكن اعتبار البحيرات العظمى غير معرضة للمد، ولكن هذا لا يعني أن المد لا يتواجد في مساحات صغيرة».
يقل تأثير الجاذبية بازدياد المسافة، ولكنه لا يختفي أبدًا، فكل شيء في الكون مرتبط بكل شيء آخر.
لكن وفقًا لحسابات الباحثين فإن أمًا تحمل طفلها تولد قوة جذب على طفلها تقدر بـ 12 مليون مرة أكثر من تأثيرالقمر عليه، لكونها ببساطة أقرب إليه، وذلك طبقًا لموقع (Straightdope.com) وهو أحد المواقع التي تحارب الخرافات والأساطير بالمنطق والعقل.
وباعتبار أن قوى المد في محيطات الأرض تحدث مرتين يوميًا- حيث تدور الأرض حول محورها كل 24 ساعة مما يؤدي إلى تغير وضع القمر صعودًا أو نزولًا في السماء- فإذا أثرت قوى جذب القمر على الجسم البشري، يمكننا الافتراض أننا سنفقد توازننا مرتين يوميًا (ربما يحدث هذا بالفعل دون أن ندري).
دراسات حول تأثيرات القمر المكتمل:
فيما يلي بعض الدراسات الموثوقة التي لم تجد أية ارتباطات بين القمر المكتمل وأية ظواهر غريبة:
الصرع:
نفت دراسة- نُشِرت في مجلة (Epilepsy & Behavior) عام 2004- أية ارتباطات بين نوبات الصرع والقمر المكتمل، وذلك بالرغم من أن بعض المرضى اعتقدوا أن القمر المكتمل هو سبب نوباتهم.
فقد لاحظ الباحثون أن المرضى أرجعوا نوبات الصرع إلى السحر ومس الشياطين، إذ يميل البشر إلى إيجاد تفسيرات أسطورية بدلًا من العلمية للأحداث الغريبة.
زيارات عيادات الطب النفسي:
بحثت دراسة أجراها باحثو عيادة مايو (Mayo Clinic) عام 2005 في أعداد المرضى الذين سجلوا الدخول في قسم الطوارئ في عيادات الطب النفسي ما بين السادسة مساءً والسادسة صباحًا خلال عدة سنوات، فلم تثبت أية اختلافات إحصائية في عدد الزوار في الليالي الثلاثة المحيطة باكتمال القمر بالمقارنة مع الليالي الأخرى.
زيارات غرفة الطوارئ:
في دراسة نُشِرت في مجلة (American Journal of Emergency Medicine) عام 1996، فحص الباحثون 150999 تسجيل لزيارات غرفة الطوارئ في مستشفى في إحدى الضواحي، فلم يجدوا أية اختلافات بين ليالي القمر المكتمل بالمقارنة مع الليالي الأخرى.
نتائج العمليات الجراحية:
هل يخفق الأطباء والممرضون أكثر خلال ليالي القمر المكتمل؟ هذا الأمر غير صحيح وذلك وفقًا لدراسة نُشِرت في عدد أكتوبر 2009 من مجلة (journal Anesthesiology).
في الواقع وجد الباحثون أن المخاطر هي نفسها بغض النظر عن أي يوم في الأسبوع أو أي وقت خلال الشهر تُجري فيه جراحتك الخاصة بالشريان التاجي.
لا ترفض الدراسات كلها وجود التأثير القمري:
إصابات الحيوانات الأليفة:
في دراسة أُجريت في مركز الطب البيطري بجامعة ولاية كولورادو (Colorado State University Veterinary Medical Center) وشملت 11940 حالة، وجد الباحثون أن حالات زيارة قسم الطوارئ ازدادت بنسبة 23% للقطط و 28% للكلاب في الأيام التي يكتمل فيها القمر.
قد يحدث ذلك بسبب ميل الناس لاصطحاب حيواناتهم الأليفة للتنزه أكثر خلال تلك الأيام مما يزيد من احتمال الإصابة، أو ربما لسبب آخر (لم تحدد الدراسة سببًا معينًا).
الحيض:
هذا أحد المواضيع التي يوجد حولها العديد من التكهنات والقليل من الأدلة.
الفكرة أن القمر يكتمل كل شهر، والحيض يحدث شهريًا، إذ تختلف الدورة الشهرية عند النساء من حيث مدتها وتوقيتها- في بعض الأحيان بشكل كبير- لكنها تحدث في المتوسط كل 28 يوم، بينما تحدث دورة القمر كل 29.5 يوم.
وبالرغم من ذلك، هناك دراسة واحدة (تضم 312 امرأة)- أجراها وينفريد ب. كاتلر (Winnifred B. Cutler) عام 1980، ونُشِرت في مجلة (American Journal of Obstetrics & Gynecology)- تدّعي وجود ارتباط بين الدورة الشهرية ودورة القمر.
فقد وجد كاتلر أن 40% من المشاركات في الدراسة جاءهن الحيض خلال أسبوعين من اكتمال القمر (مما يعني أن 60% لم يتم لهن ذلك).
لكن يجب أن يكون المرء متشككًا، ففي فترة تزيد عن ثلاثة عقود، لا يبدو أن هناك دراسة أخرى تدعم مزاعم كاتلر.
توحش الحيوانات:
تترك دراستان متعارضتان- نُشِرَتا في مجلة (British Medical Journal) عام 2001- مجالًا للمزيد من الأبحاث في هذا الأمر.
ففي إحدى هاتين الدراستين وُجِدَ أن عضّات الحيوانات تسببت في زيادة دخول الأشخاص لغرفة الطوارئ إلى الضعف في فترات اكتمال القمر بالمقارنة مع الأيام الأخرى، بينما وجدت الدراسة الأخرى أن الكلاب قامت بعض الناس بنفس المعدل في كل الليالي.
تتصرف بعض الحيوانات البرية بشكل مختلف خلال فترة اكتمال القمر، فمثلًا تصطاد الأسود عادةً في الليل، لكن في الفترة التي تلي اكتمال القمر تصطاد في النهار بصورة أكبر، على الأرجح لتعويض الصعوبات التي تواجهها عند الصيد ليلًا.
الحرمان من النوم:
هناك العديد من الأبحاث بهذا الصدد.
ففي مجلة (the Journal of Affective Disorders) عام 1999 اقترح الباحثون أنه قبل الإضاءة الحديثة كان القمر مصدرًا مهمًا من مصادر الإضاءة الليلية التي أثرت على دورة النوم واليقظة، وأنه كان يسبب الحرمان من النوم في ليالي اكتماله.
وقد توقعوا أن هذا الحرمان الجزئي من النوم كان كافيًا ليسبب الهوس والهوس الخفيف لدى المصابين بالاضطراب ثنائي القطب، والنوبات لدى مرضى الصرع.
لم تُختبر أيًا من هذه التكهنات أو يتم التحقق منها بأية أرقام أو دراسات دقيقة من أي نوع.
وجدت دراسة صغيرة أُجريت عام 2013 وضمت 33 متطوعًا بالغًا فقط، أنهم ناموا فترة أقل خلال ليالي اكتمال القمر حتى عندما لم يتمكنوا من رؤية القمر، ولم يكونوا على علم بأنهم في فترة اكتمال القمر.
لكن الباحثون أوضحوا أنهم بحاجة لتكرار الدراسة عدة مرات قبل تأكيد العلاقة بين اكتمال القمر والحرمان من النوم.
بعد ذلك وفي عام 2014 راجع علماء من معهد ماكس بلانك للطب النفسي (Max-Plank Institute of Psychiatry) مجموعة واسعة من الأبحاث عن العلاقة بين القمر والنوم ولكنهم لم يجدوا أية علاقة بين دورة القمر والنوم.
وفي الآونة الأخيرة نُشِر بحث في شهر مارس لعام 2016 خضع له 5800 طفل تتراوح أعمارهم ما بين التاسعة والحادية عشرة في إثني عشر بلدًا مختلفًا، ووُجد أنهم ناموا خمس دقائق أقل في ليالي اكتمال القمر.
قال الباحثون: «من المرجح ألا يكون ذلك شيئًا مهمًا من منظور صحي، لكنه أمر مثير للاهتمام».
وقد اقترح الباحثون أن سطوع القمر المكتمل قد يكون السبب وراء ذلك، لكن مع هذه الإضاءة الصناعية المتواجدة هذه الأيام فقد شككوا في صحة هذا الاقتراح.
وتستمر الخرافات:
إذا نفت الدراسات هذه العلاقة بين القمر وهذه الظواهر الغريبة فلماذا تستمر هذه الخرافات بهذا الخصوص؟
يُشير العديد من الباحثين إلى الإجابة التالية:
عندما تحدث الأمور الغريبة في فترة اكتمال القمر يلاحظ الناس ذلك الجرم السماوي المشرق في السماء ويتساءلون عن العلاقة، لكن إذا حدثت هذه الأمور الغريبة في باقي أيام الشهر، فإنها فقط أمور غريبة ولا يربطها الناس بأحداث سماوية.
يقول بنجامين رادفورد (Benjamin Radford) كاتب عمود العلوم السيئة: «يتوقع رجال الشرطة والأطباء أن تصبح ليالي اكتمال القمر محمومة أكثر، لذلك قد يفسرون الصدمات والأزمات العادية على أنها أكثر تطرفًا من المعتاد. إذ تؤثر توقعاتنا على ادراكنا، فنحن نبحث عن دلائل تؤكد معتقداتنا».
وهذا يقود إلى هذه الملاحظة النهائية، والتي من المحتمل أن تكون المسمار الأكثر منطقية في نعش خرافات القمر الجنونية: لا يحدث المد الأعلى في ليالي اكتمال القمر فقط، ولكن عند ولادة قمر جديد أيضًا عندما يكون القمر بين الأرض والشمس (عندما لا نتمكن من رؤية القمر)، فيتأثر كوكبنا بالجاذبية المجتمعة من هذين الجسمين.
حتى الآن لم يحدث أن ادعى أحد أية أشياء غريبة متعلقة بولادة قمر جديد (ما عدا حقيقة مفادها ازدياد تلوث الشواطئ في فترات اكتمال القمر وولادة آخر جديد).
يوسف عامر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق