أربكت حقيقة توسّع الكون العلماءَ على مدى عقود، ففي حين يقول المنطق أنّه على الجاذبية أن تقرّب المجرّات من بعضها البعض، إلا أن الملاحظات والمشاهدات في تسعينيات القرن العشرين توصّلت إلى أنّ الكون لا يتوسّع فحسب وإنما يتوسّع بمعدلٍ متسارعٍ، الأمر الذي عزاه العلماء إلى الطاقة المظلمة.
الطَّاقة المظلمة* هي قوة افتراضية تشكل نحو 68.3% من الطاقة في الكون المنظور، تدفع المجرات بعيدًا عن بعضها البعض.
وعلى الرغم من تعدد الأدلة غير المباشرة على وجودها، لم يستطع أحدٌ الكشف مباشرةً عن الطاقة المظلمة أو شرح مصدرها بشكلٍ كافٍ.
دراسة جديدة اليوم حلّت كل ذلك.
فماذا كانت الإجابة؟
الطاقة المظلمة تبدو منطقية بشكلٍ كبيرٍ مع افتراضٍ خارجٍ عن المألوف يتخلص من انتهاك أحد القوانين الأساسية في الكون دون أن يلاحظ أحد، وهو قانون مصونية الطاقة الذي تعلمناه جميعًا في المدرسة الثانوية وينص على أنّ الطاقة في نظامٍ معزولٍ لا تفنى ولا تُخلق من العدم، إنما تتحول من شكلٍ إلى آخر دون زيادةٍ أو نقصان.
وتناقش الدراسة الجديدة أنّه إذا سرّب الكون كمياتٍ قليلةً من الطاقة في أيامه الأولى، فإن ذلك يفسّر الطاقة المظلمة التي نراها اليوم.
الأهم من ذلك، ما يقوله الفريق بأنّ هذا القانون قد انتُهِك قليلًا بشكلٍ لم نستطع ملاحظته حتى.
فلماذا نحن بحاجةٍ إلى مثل هذه الفرضية المتطرّفة؟
عندما يتعلّق الموضوع بالطاقة المظلمة فكل شيء ينهار، ولشرح ذلك نحن بحاجةٍ للعودة إلى عام 1917، حين حاول آينشتاين البحث عن سبب ثبات الكون، إذ كان ثبات الكون الافتراض السائد آنذاك وليس التّمدد أو الانكماش.
ولتوضيح سبب انكماش الجاذبية، استنتج آينشتاين وجوب وجود شيء ما يعاكس فعل الجاذبية على المستوى الكوني، أطلق عليه اسم الثابت الكوني.
لكنه رفض تلك الفكرة إلى حدٍ بعيدٍ في عام 1929، عندما رأى الفلكي إدوين هابل أول علامات توسّع الكون.
ثم وفي أوائل تسعينيات القرن الماضي، اكتشف العلماء تمدد الكون بمعدلٍ متسارع، وعاد ثابت آينشتاين إلى الساحة ثانيةً.
إذ يظن الباحثون أن ثابت آينشتاين هو ما نسميه اليوم الطاقة المظلمة.
فما هي الطاقة المظلمة إذًا؟
كفكرة عامة، هي ثابت كوني يظهر من الفراغ في الفضاء.
بفضل ميكانيكا الكم، نعلم أنّ الفراغ في الفضاء ليس فارغًا حقًا وممتلئًا بجسيماتٍ كموميةٍ غريبةٍ وطاقةٍ تظهر للوجود وتختفي وأحد تلك الجسيمات الغريبة قد تحمل قوةً دافعةً (الطاقة المظلمة).
والمشكلة الوحيدة أنّ ذلك المقدار من الطاقة المظلمة، المُتوقّع نتيجةً لتلك العملية بعيدٌ أكثر مما يمكن للكون المنظور* تفسيره، وعلى وجه الدّقة فنحن بحاجةٍ لأكثر من 120 ضعف حجم الكون المنظور.
وذلك يعني إما أننا قد لا نستطيع قياسها أو أننا لم نفهم بعد من أين أتت الطاقة المظلمة بالدرجة الأولى.
وهذه الدراسة الجديدة تقترح أنّ الاحتمال الأخير قد يكون واقعًا وتفسّره الفرضية الجديدة التي تقوم على تساؤلنا، عمّا إذا كان الكون قد سرّب الطاقة في أيامه الأولى وحدّدت الطاقة الضائعة قيمًا للطاقة المظلمة؟
ويقول أليخاندرو بيريز (Alejandro Perez) أحد أعضاء الفريق: «في النموذج تتعقب الطاقة المظلمة كمية الطاقة والقوة الدافعة المفقودة على مدى عمر الكون».
وأساس هذه الفرضية هو نموذج آخر للنظرية النسبية العامة التي وضعها آينشتاين في العقد الثاني من القرن العشرين ويدعى (Unimodular gravity) وينص على أنّه ليس من الضروري أن تكون الطاقة مصونة.
وصرّح الفريق أنَه إذا طُبّق نموذج (Unimodular gravity) في الحسابات فهذا يعني أنّ قيمة الثابت الكوني تتوافق تمامًا والمشاهدات المتعلقة بتوسّع الكون المتزايد.
والأهم أنها لا تعبث بفهمنا الحالي للكون بشكلٍ كبيرٍ، وعلى أي حال فاختفاء الطاقة في بدايات الكون تؤثر على قيمة الطاقة المظلمة بشكلٍ واضحٍ ولكنها لا تؤثر على أي شيء آخر أو على ملاحظاتنا بالتجارب اليوم.
ويقول تيبت جوسيت (Thibaut Josset) عضو آخر في الفريق: «الطاقة من مكوناتٍ مادية يُمكن أن تُفقَد لصالح حقل الجاذبية، ويعبّر هذا السلوك في فقدان الطاقة عن الثابت الكوني، ومن غير الممكن الحدّ منه خلال عملية التَّوسع في وقت لاحقٍ من عمر الكون، وبالنتيجة فقدان أو خلق مقدار قليل جدًا من الطاقة في الماضي البعيد قد يقود إلى نتائج كبيرة اليوم».
ولذلك هناك مشكلة كبيرة هنا؛ فإذا اختفت الطاقة دون أن تترك أي آثارٍ دائمةٍ على الكون، عدا تغيير قيمة الطاقة المظلمة، فليس هناك وسيلة لاختبار فيما إذا كانت هذه الفرضية صحيحة أم لا.
ويضيف جوسيت: «اقتراحنا هذا عامٌ جدًا ويُتوقّع أن يُسهم أي انتهاك لقانون صون الطاقة في إيجاد ثابت كوني فعّال يسمح بوضع قيودٍ جديدةٍ على نماذج الظواهر ما عدا ميكانيكا الكم القياسية.
ومن ناحية أخرى، فالدليل المباشر على أنّ مصدر الطاقة المظلمة هو تسرّب الطاقة يبدو بعيد المنال، كما يتوافر لدينا اليوم وصولًا إلى قيمة لامدا (الثابت الكوني) والقيود المفروضة على تطوره في وقتٍ لاحقٍ فقط».
لا تزال هذه الفرضية حتى الآن على هذا الشكل لم تختبر. ولكن علماء الفيزياء يودّون التحقيق في احتمالاتها بشكلٍ أكبر في المستقبل.
ويقول لي سمولين (Lee Smolin) المنظّر من معهد بيريمتر في واترلو في كندا والذي لم يكن منضمًا للدراسة: «لا تعتبر هذه الفرضية قطعيةً بأي حالٍ من الأحوال، لكنها فكرة جديدة وقد تكون صحيحةً وبالتالي تستحقّ الاهتمام بشأنها».
هوامش:
-الطَّاقة المظلمةَ: ينبغي عدم الخلط بينها وبين المادة المظلمة، إذ يتشكل الكون من 68,3% من طاقة مظلمة وحوالي27% مادة مظلمة و5% من المادة العادية التي تتشكل منها الأرض وكل الأدوات والكائنات التي تراها وتعرّف المادة المظلمة بأنها مادة مجهولة تتكون من جسيمات تدعى الباريونات (baryons) يستدل عليها من خلال امتصاصها للأشعة المارة عبرها.
-الكون المنظور: هو الجزء من الكون الذي نستطيع مشاهدته اليوم.
محمد عامر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق